Tuesday, October 29, 2019

الوعي يثور... إسألوا الساحات

"إن استثارة الانفعال العاطفي بدلاً من التفكير هي طريقة تقليدية تستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أن استخدام المفردات العاطفية يسمح بمرور اللا – وعي حتى يتم زرع أفكار به، ورغبات ومخاوف، ونزعات وسلوكيات".... هكذا شرح نعوم تشومسكي تأثير الساسة على الشعب، وكم عانينا نحن اللبنانيون من استثارة السياسيين لعواطف مناصريهم لسنوات وسنوات، ولكن بلحظة واحد انتفض الشارع مرّة واحدة، نزل إلى الكثير من الساحات ليقول للساسة كفى.. ما عدنا نصدقكم... خربتم البلد.. إرحلوا... إلا شارعين نزلا ليدافعا عن الزعيم!
نحن نعرف أن هناك من يحبّون رئيس الجمهورية حتى العظم، كما هناك من يحبّون أمين عام حزب الله ورئيس مجلس النواب... نعم إنهم يحبونهم ويناصرونهم حتى النخاع... وهذه حريتهم الشخصية في بلد يدّعي الديمقراطية، ولكن مهلاً لماذا نزلوا إلى الشارع؟ في صور والنبطية ورياض الصلح بالاعتداء على المتظاهرين من دون توفير رجال قوى الأمن الداخلي، والتطاول على المراسلين على مقلب مناصرة رئيس الجمهورية... نعم نحن نتفهم الحب ولنقل النزول إلى الشارع لإظهار هذا الحب، وإن كان هزيلاً جداً اذا ما قارناه بالملايين التي نزلت إلى كل الساحات مطالبة كل الطقم الحاكم بالرحيل... ولكن لا نستطيع أن نتفهّم استخدام العنف مع متظاهريين سلميين!
اذا قاربنا الموضوع من زاوية علم النفس نجد أن ردود الفعل العنيفة ما هي إلا تعبير عن غضب ممزوج بالخوف... غضب من مظاهر شعروا أنها تهدّد وجودهم، وهنا أتحدث عن الساسة قبل المناصرين، فثار الشارع المقابل غضباً فاقدا القدرة على ضبط النفس ضمن الحدود الأخلاقية والانسانية..
ومن الطبيعي أن يخاف السياسيون على وجودهم في مشهدية لم يسبق للبنان أن عاشها... عشرة أيام، كل يوم تزداد الساحات ويزداد روادها والكل يرفع مطالب موحدة: رحيل كل الطقم الحاكم، استعادة الأموال المنهوبة... وشعاراً عريضاً "كلن يعني كلن". في انتفاضة الشارع لم ينزل اللبنانيون تلبية لمطالب السياسيين، بل نزلوا تلبية لصرخة داخلية باتت ملحة... "كفى استغباء لنا... من حقنا أن نعيش حياة كريمة"!
نزلوا إلى الشارع في 17 تشرين الأول ومستمرون في اعتصامهم مع حرصهم على إقفال الطرقات الحيوية، مرة بالاطارات المشتعلة، ومرة بالسواتر الترابية وأخيراً بالدروع البشرية... ما يحصل على أرض لبنان وساحاته يمكن أن نسميه عصياناً مدنياً مبطناً إلى أن تتجاوب السلطة مع مطالب الشارع.
ومع ثبوت تعنّت السلطة ورفضها الرضوخ للمطالب، بدأت تظهر معالم نية بالحزم ولكن النقطة الايجابية في كل ذلك أن الجيش، المؤسسة العسكرية التي تحاول السلطة استخدامها لقمع المتظاهرين وسحبهم بالقوة من الساحات، تتعاطف بغالبية كبيرة مع هذا الشارع، ورأينا ذلك في فيديوهات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر العسكر متضامنين مع الناس، ففي النهاية العسكر من الناس وفيهم!
الناس في الشارع يقولون "لبنان خط أحمر"، والمناصرون للعهد ونصرالله يقولون "زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يطالبون بحكومة من الاختصاصيين من خارج السلطة الحاكمة لتنقذ البلد من الانهيار الذي يتهدّده، استعادة الأموال المنهوبة في صفقات السياسيين على حساب الدولة، وبانتخابات نيابية مبكّرة... والمناصرون للعهد ونصرالله يقولون لهم "لا زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يهتفون "سلمية سلمية"، يغنون الأغاني الوطنية، يعدّون الطعام والشراب لبعضهم البعض، ببساطة يعيشون تعايشاً حقيقياً في الساحات العامة... والمناصرون للعهد ونصرالله يرددون "زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يحاولون رسم صفحة جديدة لوطن أنهكه الفساد... والمناصرون للعهد ونصرالله يرددون "زعيمي خط أحمر"...
طبعاً الساحات والشوارع ليست منزّهة عن الأخطاء ولكن الخطوط العريضة التي يرفعها ما يقارب المليوني لبناني ويرفعونها يومياً في الساحات اللبنانية وفي الكثير من دول المهجر، مغايرة جداً لما يرفعه عدد أقل بكثير لا يحمل إلا شعاراً واحداً، يستخدم العنف لأجله، يصرخ بوجه المراسلين بسببه... "زعيمي خط أحمر".
أحلى ما في ثورة 17 تشرين الأول، أنها أسقطت عن الكثير من الزعماء غطاء الشارع... أحلى ما فيها أنه عكست للعالم ثقافة ووعي شعب صبر طويلاً على انتهاش لحمه ولكنه بلحظة لم يكن هو يتوقعها انتفض، انتفض على كل شيء... وفوجىء كم هو موحّد، كم هو قادر على إحداث فرق... كم هو واع على واقعه حين ظن السياسيون طويلاً أنه أعمى ويمكن استغباؤه... الآن يخرج الساسة واحداً تلو الآخر محاولاً امتصاص غضب الشارع، وكل ما خرج أحد كل ما غضب الشارع أكثر وانتفض أكثر... أحلى ما في 
الثورة أنها أرتنا نحن اللبنانيين، قبل غيرنا، ماذا يمكننا أن نفعّل!

Monday, October 21, 2019

لبنان ينتفض... لن تُسكتوا الشارع

لم يكن اللبنانيون يتوقعون أن يشهدوا أصواتهم تعلو في الساحات العامة بهذه القوة والزخم...
أن يرددوا بصوت عال هتافات ضد مسؤولين دأبوا منذ سنوات على استنزافهم...
أن تتحوّل الأخبار والشاشات من نقل كذب الساسة إلى نقل نبض الشارع الذي يثور...
أن يُسمعوا العالم صوتهم ويخبروه عن أوجاعهم...
أن ينكسر خوفهم من سياسيين وصلت بهم الوقاحة إلى سحب ناشطين إلى التحقيق لمجرد التعبير عن رأيهم عبر وسائل التواصل الإجتماعي
أن تتحوّل الأضواء من حاكمي البلد إلى المحكومين فيه.
ولكن ما لم يكن في الأحلام حتى صار حقيقة... انكسر حاجز الخوف... الخوف من كل شيء.. نزل الناس إلى الشارع غير عابئين بالـ "بعبع" الآخر الذي خلقه السياسيون ليبتزونهم عاطفياً ويبقونهم تحت رحمتهم... ومن كان لديه شك ولو بسيط، اكتشف زيف تلك الادعاءات... فهذا الآخر من غير دين أو طائفة يجمعه به ألف شيء... يجمعهم الجوع والحرمان والاستنزاف.. وبات الشارع يجمعهم الآن أيضاً.
يقال "الشعب الذي يجوع يأكل حكامه"... والشعب اللبناني جاع ولم يعد يحتمل!
17 تشرين الأول 2019 لن يكون يوماً عادياً في رزنامة التاريخ اللبناني، هذا اليوم سيسجّل في التاريخ: اليوم الذي كسّر فيه اللبنانيون صمتهم وانتفضوا في الشارع... اليوم الذي قلبوا فيه الطاولة على سياسيين سلبوهم أبسط حقوقهم بالعيش الكريم... ظلوا يستفزوهم إلى أن أخرجوهم إلى الشارع، والوقائع تشير إلى أنهم لن يخرجوا منه قبل أن يحققوا مطالبهم.
مع وقاحة الضرائب الجديدة التي أعلنت عنها الحكومة على التخابر عبر تطبيقات مجانية أصلاً، ولكن ليس الواتساب الذي جعل الناس ينزلون إلى الشارع، كان هو الشرارة التي أشعلت فتيل الشارع.
انتفض الشارع على استغبائه واقتراحات سد عجز الدولة دائماً من جيبه، من دون المس برواتب ومخصصات ورفاهية المسؤولين؛ فباحتساب بسيط للأرقام، الـ 216 مليون دولار التي روّج وزير الاتصالات بأن الخزينة ستجنيها من الضريبة على التخابر عبر الانترنت، المجاني أصلاً، لا يوازي كلفة رفاهية المسؤولين في سفراتهم على حساب الدولة مثلاً!
هذا عدا عن ضرائب جديدة كانوا يسوقون لها، عشية حرائق التهمت الأخضر واليابس في بلد يتغنى بخضاره، وروائح اهمال، تقاذف مسؤوليات وصفقات طفت إلى السطح على وقع ألسنة النار!
الضريبة على الواتساب كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد سلة تجاوزات بحق هذا الشعب الذي ينوء تحت كاهل معيشته، استخفاف فيه وبحقوقه، وعنجهية غير مسبوقة من سلطة حاكمة.
مشهد الشارع شهدناه في العام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وأثمر وقتها خروج الاحتلال السوري من لبنان. الا أنه كان ينقصه الشارع الشيعي، الذي كان على المقلب الآخر... ووقتها كان الخطاب سياسياً ونجوم المنابر ساسة، ولكن هذه المرة، الناس هم نجوم المنابر، وانقلبوا على أولئك الساسة.. وقتها أعطى الناس السياسيين الثقة ليتحدثوا بإسمهم ورددوا الخطابات خلفهم... أما الخميس الفائت، فرفعوا عنهم هذه الثقة، ما عادوا يريدونهم أو يريدون خطاباتهم.
لم يسبق للبنان أن شهّد هذه الأعداد من كل الطوائف، منتشرة في ساحات مختلفة عبر أراضيه تطالب الجميع بالرحيل.
لم يسبق أن خرج أهل صور والنبطية وطرابلس إلى الشارع منددين بزعمائهم، فالعادة جرت أن يُطوعوا لتلميع صورة هؤلاء.
لم يسبق أن خرج أناس من النبطية وشتموا رئيس مجلس النواب نبيه بري، أو من الطريق الجديدة شاتمين رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري... أو من صور شاتمين حسن نصرالله.. على الهواء مباشرة.
انكسر حاجز الخوف، وكأن كيل الناس فاض وضاق الوطن بهم ذرعاً من مسؤولين أحكموا القبضة على بلد ينزف... بلد جعله جشعي المال والسلطة ينزف بيئياً، اقتصادياً، اجتماعياً... خرج الناس يصرخون بأعلى أصواتهم، كفى.
كبار وصغار، نساء ورجال... خرجوا إلى الشارع يرفعون الصوت، يخبرون عن وجعهم... كل هذه السنوات كانوا يسمعون للسياسيين ولكن هذه المرة فرضوا صوتهم ليُسمعوا... "جوعتونا"... "شبعنا ذل"... "فلوا"... "رجعوا الأموال المنهوبة"... "مطرحكم الحبس"...وغيرها من العبارات التي صرخوا ويصرخون بها على الشاشات... والتشديد هذه المرة "كلن يعني كلن"!
لا تزال الساحات تغّص بالمتظاهرين ولا يزال هواء الاعلام مفتوحاً للناس ليُخرجوا صمت سنوات من الشعور بالغبن. لن يكون الرهان على الساسة الذين خرجوا بمهلة 72 ساعة بورقة اصلاحية، قد تكون جيّدة ولكنها لا تتضمن كل البنود التي يعترض عليها الشارع، ولا ثقة لهذا الشارع بتنفيذها...
الرهان أن يخلق هذا الشارع بنبضه الحقيقي بديلاً فعّالاً يُخرج لبناننا من أزماته، والناس من الساحات مهللين فرحاً بالانتصار!

Tuesday, October 1, 2019

الثورة تحتاج إلى ثوّار

"موجوع... والله العظيم موجوع"... بهذه العبارة وبصوت متنهّد وعينين دامعتين استغاث لبناني مسّن واجتاح وجعه وسائل التواصل الاجتماعي محركاً نقمة وتعاطفاً في الوقت عينه... 

العم لم يعبّر عن آلامه الجسدية وعدم قدرته على العلاج فحسب، بل قال للسياسيين، بالدليل الدامغ، كم تكذبون حين تقولون "لبنان بخير... قد تكونوا أنتم وكراسيكم بخير، أما الشعب فليس كذلك.. الشعب موجوع"!

يوحي السياسيون الناشطون استعراضاً أن البلد في أفضل أحواله، نعم من قد يتوقع أن يكون وفد كبير إلى نيويورك آتياً من بلد ينازع اقتصادياً؟ من يتوقع أن يكون وزير يخطب بالمثاليات ويعطي المهاجرين صورة لمّاعة للمستقبل، آت من بلد يغرق! 

طبعاً نحن بلد نحّب أن نعطي صورة مبهرة عن أنفسنا، حتى لو كنّا نتخبط بوحول الديون... لن تأخذ الدول فقرنا على محمل الجد، فالمنطق يقول إن العجز المادي يتطلب تقشفاً، لا بذخاً... والمنطق يقول إنه يفترض بعائلة صغيرة أن تقتص من كمالياتها في حال العجز، فما بالك ببلد!

هذا الانتقاد الذي يعبّر عنه الشباب اللبناني، لا يروق لمناصري الحكم الحالي. ومن يتابع تويتر مثلاً، سيجد أن الرد دائماً يكون من باب نظرية المؤامرة على العهد وتصويب أصابع الفساد على الأطراف الأخرى... والعكس بالعكس.. وكم كثرت ملفات الفساد التي فُتحت مؤخراً وضج بها الإعلام، ولكن لم يستتبع فتح أي ملف محاسبة أي مسؤول. ماذا حصل بالصفقات التي فضحوها؟ لماذا سكتت الأصوات والوثائق؟

أولاً لأن الغاية من فتح هذه الملفات هو تشتيت انتباه الشعب وتخدير صرخته لا المحاسبة، وثانياً لأن السياسية في لبنان تقوم على مبدأ التسويات، بالعامية اللبنانية "مرقلي لمرقلك". وهكذا يستعرضون سياسياً ويصمتون عند المصالح! 

حسناً، لنتفق أن الذين تعاقبوا على حكم هذا البلد منذ سنوات أمعنوا تلوثاً بالفساد، كل منهم كان له ملفه الفاسد: الكهرباء، النفايات، الكسارات، التعدي على الأملاك البحرية... والقائمة لا تنتهي.. وهذه تراكمت لتنفجر كلها مع ملفات فساد جديدة في حكم قد يكون الأسوأ في لبنان. حكم، لا يكفي فشله في إدارة بلد غارق في الديون، يبني حضوره على العنجهية والغطرسة والوعود الكاذبة... أما الشعب فمنقسم بين مستفيد وموجوع!

نعم ليس كل الشعب موجوع، فهناك شعب مرفّه على غرار زعيمه، فالتعيينات الإدارية والوظائف العامة والتوازنات الطائفية و و و و تعطي السياسيين ورقة رابحة لضمان ولاء المناصرين، وجيش المدافعين عندما تستدعي الحاجة.

على المقلب الآخر، هناك الولاء الايديولوجي وهو ولاء عقائدي معزّز بالمكاسب المادية والمعنوية بإمدادات خارجية، وهذا بدوره له انعكاسات منافع على الحلفاء. 

وعلى هذا الحال لم يبق من هذا الشعب الا الفئة الواعية للواقع والمتحرّرة من الولائين السياسي أو الايديولوجي؛ وهذه عدا عن اصطدامها على أرض الواقع مع الفئات الأخرى المدافعة عن قوى الأمر الواقع، فهي وحدها غير قادرة على تحقيق ثورة وقلب طاولة الفساد على رؤوس المفسدين..

لا نحتاج إلى الكثير من التحليل لنرى أن البلد الذي كان يلقّب بسويسرا الشرق يوماً، بات على حافة الكثير من الانهيارات: بيئياً، صحياً، أمنياً، معيشياً، اقتصادياً... وعلى ما يبدو فالسلطة تُمعن فشلاً كل يوم أكثر؛ فأي نجاة لبلد يحتاج إلى خطة طوارىء ولجنة مختصين، ويُقاد بالصفقات والفاسدين؟

بالأمس نزل الناس إلى الشارع، والشارع حضن الثورة... ولكن في لبنان لا أمل في أن يحرّك الشارع أي ثورة حقيقية، فالثورة تحتاج إلى شعب يقف على ضفة واحدة لا أن يتشتت على ضفاف السياسة والمصالح والإيديولوجيا... تحتاج أن يتضامن هذا الشعب ويصّر على حقوقه لا أن يكون متنازلاً عنها سلفاً كرمى لمن نصبوا أنفسهم عرّابين مدعين حمايته... الثورة تحتاج إلى روح متمردة على الظلم ووعي للواقع وخطة عملية لتغييره... الثورة تحتاج إلى شعب لا أتباع... الثورة تحتاج إلى ثوار!