Friday, December 13, 2019

ينحرون الوطن ويرقصون بجنازته

"أين ستهربون من ردة الغضب في صدر شعب كامل يحترق الغضب؟
أين ستهربون... من لعنة الضمير...؟ لن يُعينكم هرب.
أين ستهربون من رضع شردتموهم خارج الأمان... لا سقف لا زمان؟"
إنها لسخرية القدر أن تكون هذه الكلمات التي كتبها الشاعر هنري زغيب وغنتها الفنانة ماجدة الرومي للعدو الاسرائيلي بعد مجرزة قانا في العام 1996، تُناسب مسؤولين لبنانين أُوكل اليهم هذا الوطن فخانوا الأمانة... إنها للعنة القدر!
اللبنانيون جوع وجاعوا... موت وماتوا... ماذا بعد؟ ماذا بعد في جعبة سلطة كل ما ظن اللبنانيون أنها قدّمت لهم أفدح عروضها في الفساد والوقاحة، تفاجئهم بعرض أكثر استفزازاً.. وكل يوم تبدع بإغضاب الشعب أكثر فأكثر، لدرجة أن "الوقاحة" باتت مصطلحًا لطيفًا أعجز من أن يعبّر ويصّف ما تفعله!
البلد يغلي وهم بكل برودة يتقاسمون الحصص الوزراية.
البلد ينهار مادياً وهم يوزعون وزارات دولة لا طائل منها ومكلفة لدولة عاجزة. يوزعونها وكأنها حبّات بسكويت ليوازنوا محاصصاتهم ويخدموا مصالحهم التعطيلية!
رجال ينتحرون بعد أن ضاقت بهم الحياة درعاً وباتوا عاجزين عن تأمين أبسط احتياجات عائلاتهم... وهم يعيشون يومياتهم كأن شيئاً لم يكن!
طرقات فائضة بالمياه مع أول هطول غزير للمطر، مواطنون عالقون ساعات على الطرقات وأضرار مادية كبيرة، وهم يستمهلون ويناكفون ببعضهم بعضاً!
علماً أن المطر تأخر هذه السنة وكأنه يرأف باللبنانيين.. وكأن الطبيعة تدرك أن النعمة على كل البشر، باتت على اللبنانيين نقمة!
كل شيء في هذا البلد بات نقمة حتى القرش الأبيض الذي خبأه اللبنانيون ليومهم الأسود بات نقمة بعد أن اتخذت المصارف تدابيرها بمنع المودعين من سحب أموالهم إلا بيسر نذير!
ويخرج رئيس الجمهورية معايراً المواطنين الذين سحبوا أموالهم بأنهم السبب في أزمة المصارف، ناسياً أو متناسياً مليارات الدولارات التي حوّلها السياسيون وكبار المودعين إلى الخارج أول أيام الانتفاضة!
لماذا الدولة مسؤولة لأنها هي المولجة حماية هذا الاقتصاد المنهار، وبدل أن تلجأ إلى احتضان المواطن، تخنقه أكثر فأكثر.
أكثر من خمسين يوماً الناس في الشوارع يثورون، وبدّل أن يوقظ ذلك السياسيين من غيّهم لتبديل المشهد القاتم، يعيشون حالة انكار!
ماذا حصل؟ أغلقت الكثير من الشركات أبوابها وسرّحت موظفينها، خُفضت معاشات الكثيرين إلى النصف، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بشكل جنوني، وتشير الأرقام إلى أن الارتفاع وصل إلى ثلاثين في المئة.
في بلدنا الناس خائفون على لقمة يطعمونها لأولادهم، والسلطة تهدر الملايين...
في بلدنا الفقراء ينتحرون من الجوع والأغنياء يزدادون تخمة وصلافة...
في بلدنا، ناجي الفليطي الذي انتحر لأنه لم يستطع القيام بمسؤولياته تجاه عائلته الصغيرة، كان يسجّل ديونه على دفتر ليعيدها... والمسؤولون لم يتحملوا أي مسؤولية؛ سرقوا المليارات حتى شُلّ البلد، ولا ينوون إعادة أي شيء بل يطمعون بالمزيد... ويختلفون على الحصص!
في بلدنا ينتفض الفقير لكرامته وينتحر... وهم على كراسيهم بلا كرامة يتعنتون.. ما أوقحهم!

Thursday, November 21, 2019

استقلال بنبض ثورة

لن يكون هناك عرض عسكري هذه السنة... لن يقف الرؤساء الثلاثة ببزاتهم الرسمية لمشاهدة عرض العسكر والعتاد، ومن بعدها تقبّل التهاني بالذكرى.
عرض هذه السنة استثنائي، ويقدّمه العامة وليس العسكر...
عرض هذه السنة لن يقتصر على يوم واحد فقط، هو عرض لنبض شارع ثائر ومستمر منذ 17 تشرين الأول الفائت، أي منذ شهر ونيف، يوم قرر اللبنانيون أن يستقلّوا بقرار حياتهم عن التبعية العمياء لساسة وقفوا ببزاتهم الأنيقة يراقبون انهيار البلد!
أي عرض هو الأمتع؟ اللبنانيون الثوّار يستمتعون بعرضهم... ولكن الحكم يبقى للمتفرجين!
عروض السنوات السابقة غدت بروتوكولاً سنوياً للاحتفال باستقلال لبنان من الانتداب الفرنسي في 22 تشرين الثاني 1943، وقت كان في هذا البلد رجالات دولة ثاروا على المحتل الأجنبي، وحفروا أسماءهم بعزّة في التاريخ، حفاظاً على وطن اسمه لبنان.
أما عرض هذه السنة فهو انقلاب معنوي على أبناء سلطة خسروا رهان الرجولة في الحفاظ على هذا الوطن الذي يسمى لبنان.
السنة الفائتة قطعت الدولة الطرقات على المواطنين وعلقوا في الازدحام لساعات كرمى التدريبات العسكرية للاحتفال بالمناسبة.
هذه السنة، وقبيل احتفال لبنان بذكرى الاستقلال، قطع الشباب اللبناني الطرقات على النواب ومنعوهم من الوصول إلى المجلس النيابي الذي كان على جدول أعماله التصويت على قانون العفو العام.
عفو عام يساوي بين البريء والمجرم... عفو عام يقطع الطريق على محاسبة المسؤولين لاستغلال مراكزهم ونفوذهم في جرائم مالية وصفقات ومحسوبيات، حتى باتت كل موارد هذا البلد منهوبة.
السنة الفائتة، انتظر اللبنانيون في سياراتهم فرج فتح الطرقات، تأففوا، شتموا، لعنوا... ولكن هذه السنة مُنعت سيارات النوّاب من الوصول إلى المجلس، منهم من عاد أدراجه طوعاً أو مرغماً، ومنهم من توجهت اليه أصابع الاتهام بأن مرافقيه هم من أطلقوا الرصاص الحي في الهواء لتفريق المتظاهرين الذين حاولوا منعهم من العبور.. وأكثر كادوا أن يدهسوا من في طريقهم للعودة!
السنة الفائتة، كانت حماسة اللبنانيين لاحتفالات عيد الاستقلال بهتت.. فأي احتفال بالوقوف على أطلال المجد والحاضر مثقل بالانهزامات، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً...
أما السنة، انتفض نبض الوطنية في عروق اللبنانيين وقرروا أن يكفوا عن الاحتفال باستقلال من انتصارات الماضي، ويخلقوا استقلالاً حقيقياً، استقلال ممهور بأصوات شبابية صرخت في الساحات... ثورة ثورة ثورة!
لأول مرة ارتفعت أصوات اللبنانيين عالياً... والصوت لم يأت من داخل أحضان الوطن وحسب، بل تردد صداه في مختلف أقطار العالم حيث ينتشر اللبنانيون... ارتفع صوت الوطنية لبلد أنهكته الخيانات المتكررة.
عرض الاستقلال هذه السنة هو عرض ولا كل العروض، هو رقص انتصارات لشعب قرر أن ينتفض، أن يخلع عنه كل العباءات الحزبية والطائفية ويرتدي عباءة واحدة، لبنانيته... ويناضل من أجل إعادة كرامتها المهدورة على عتبات سياسيين ضربوا عرض الحائط بكل القيم والأخلاقيات، ليخلقوا منظومة تحفر الفساد أينما حلّت... وبالخطوط العريضة.
عرض الاستقلال هذه السنة هو احتفال بوعي جيل كامل ما عاد يصدّق الوعود الكاذبة...
عرض الاستقلال هذه السنة هو احتفال بعروسة الثورة، طرابلس التي أثبتت براءتها من حكمهم المبرم عليها بالإرهاب...
عرض الاستقلال هذه السنة هو إعادة إحياء لدم المواطنة في عروق كانت فقدت الأمل في أن يحضنها وطن!

Tuesday, November 12, 2019

سقط ستورهم.. بقي سقوطه:

لم يعد 17 تشرين الأول 2019 اليوم الذي تبدّل فيه مشهد الشارع اللبناني من خاضع لإرادة السياسيين إلى منتفض عليها وحسب، فهذا التاريخ كان البداية لسقوط سلطة سياسية أمعنت فساداً.. في الشارع... وتطوّر شعار هذا الشارع من "ارحلوا لا ثقة بكم وبكل ما تطرحونه" إلى توجه شعبي نحو الضغط والمحاسبة.
ملفات فساد كثيرة فتحت، وما كان مجرّد أخبار متناقلة أصبح أسماء وأرقاماً مكشوفة، قُلبت الطاولة.
اذا لخّصنا ما تكشّف في أقل من شهر على رزنامة الزمن، نقدّر أين ذهبت مليارات الدولارات وكيف وصل البلد إلى انهيار اقتصادي، يبدو بات وشيكاً جداً.. وهذا كاف لزج الكثير من الرؤساء والوزراء في السجون!
ولكن بمطالعة بسيطة لآليات المحاسبة التي فصّلها السياسيون على مقاس يناسبهم، نجد أن المحاسبة الفعلية أبعد بكثير من استعراض الإخبارات التي يتقدّم بها بعض المحامين لذر الرماد في عيون الشعب، وإيهامه بالمحاسبة.
من يحاسب الرؤساء والوزراء؟ قانوناً، المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء؛ وببحث بسيط حول تشكيل هذا المجلس وصلاحيته، نجد أنه واجهة شكلية استعراضية، وعملياً لا يحاسب ولم يسبق أن حاسب أحداً.
المحاسبة تتطلب أولاً رفع الحصانة عن المسؤول والذهاب بملفه إلى القضاء، ولكن فعلياً ورغم كل روائح الفساد التي انبعثت، لم تُسقط أي حصانة عن أي مسؤول... علماً أن هناك أشياء ظاهرة كعين الشمس مثل الـ 11 مليار دولار التي تبخرت بقدرة قادر!
أما في ما يخص القضاء فلم يعد سراً أنّ القضاء اللبناني مسيّس، وكشفت الكثير من التقارير الصحافية فساد الكثيرين في الجسم القضائي، إن لناحية الرشوة أو المحسوبيات.. وعليه مقولة العدل أساس الملك لا تسري على الهيئة القضائية.
بالعودة إلى الشارع، اعتادت السلطة السياسية تشتيته بالعصبيات الطائفية ونجحت كثيراً، إلا أن ثورة 17 تشرين الأول أسقطت هذا المحرّك...
لجأت السلطة إلى الاشاعات واستخدام إعلامها لتشويه صورة الانتفاضة الشعبية وشيطنته، ولكن ذلك سقط أيضاً...
جاء من يهوّل بحرب أهلية، فخرج الشارع مجدداً ليسقط هذا التحليل، فلبنان لم يكن يوماً موحداً بنبضه كما هو عليه الحال منذ انتفاضة شعبه ونزوله إلى الشارع.... إلا اذا كان هناك من سيرد على ما لا يعجبه من تطورات بفرض حرب بسلاحه، كما حصل في 7 أيار.
هذا على خط الخطابات وردود الشارع، إلا أن هناك واقعاً معيشياً ضاغطاً جداً، فلأول مرة نشهد انقطاع المحروقات من الأسواق اللبنانية، تمر على أكثر من محطة وقود وتجدها مغلقة... الضغط الثاني هو من خلال شح السيولة النقدية في المصارف اذ يواجه اللبنانيون عقبات في سحب أموالهم، وتحدث صحفيون اقتصاديون عن تهريب مليار ونصف مليار دولار إلى الخارج أول أيام الانتفاضة، من بينها أموال معظم أصحاب المصارف.
كل هذه التطورات والسلطة السياسية تعيش حالة نكران للواقع، ولا يزال وزراء التيار العوني يستخدمون الوعود لتخدير الناس، علماً أنه لم يتحقّق أي من الوعود السابقة التي قطعوها.. تأمين الكهرباء 24/24 مثالاً، والتي وعدنا بها الوزير المقال في الشارع جبران باسيل، منذ توليه مهام وزارة الطاقة..أي منذ عشر سنوات ولا تزال الوعود مستمرة دون نتيجة!
انسوا الكهرباء المقطوعة، هناك نفط... هذا ما لجأ اليه وزراء التيار لجذب الناس وتخديرهم مجدداً!
وفي كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الذكرى الثالثة لانتخابه، لفت إلى أن لبنان سيدخل بعد شهرين (من تاريخ الخطاب في 31 تشرين الأول) نادي الدول المنتجة للنفط، بعد أن أصّر على إقرار الحكومة مراسيم استخراج النفط والغاز، ما سيؤمن متنفساً اقتصادياً على المدى الطويل بحسب عون.
مؤسسة مهارات وفي خدمة Fact-o-meter التي تقدمها وتحقّق من خلالها بالتصاريح والوعود التي يقطعها المسؤولين، طرحت صحة دخول لبنان نادي الدول المنتجة للنفط، للتدقيق.
وكانت نتيجة التحقّق من هذا الوعد، والذي عادت وأعطته وزيرة الطاقة، بأنه غير صحيح بناء على المعطيات التالية بحسب مهارات:
- أولاً الحفر يستمر 55 يوماً قبل أن تظهر النتيجة، وتؤكد الخبيرة في قطاع النفط والغاز لوري هايتايان أن هناك ما نسبته 20 – 25% احتمال لايجاد كمية قابلة للاستخراج والاستفادة منها، وهذا لا يعني أن مباشرة التنقيب ستجعل لبنان دولة منتجة وأننا سنجد الغاز.
- أما في ما يتعلق بتأمين متنفس اقتصادي على المدى الطويل. اذا كانت النتيجة ايجابية، الخوف هو من تعاطي ونهج الحكومة التي سيتم تشكيلها. ويتمثل الخوف بحسب هايتايان في غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة وإمكانية لجوء السلطة إلى الاستدانة من الخارج على أساس أن لديها كميات من الغاز قابلة للاستخراج، ما يؤدي إلى ما يعرف بلعنة ما قبل الموارد.
- هذا عدا عن ضرورة إعادة التفكير بقانون الصندوق السيادي وضمان شفافيته ووضوحه حتى لا يتم هدر الأموال التي ستُجنى، في ظل عدم وجود رؤية واضحة لكيفية دعم الاقتصاد من الأموال التي سيدرّها النفط في حال وجوده.
وهكذا يسقط وعدنا ببلد نفطي قريباً، وأصلاً الشارع ما عاد يُخدّر بالوعود لأن الاشكالية باتت في منظومة فاسدة لا ثقة فيها!
"صار وقت نحاسب" هكذا يقول صوت الشارع، والملفات كثيرة للمحاسبة، منها ما كُشف ومنها مازال مستوراً... ولكن العبرة في النتيجة، من سيُحاسب، مَن وكيف؟
النائب والوزير السابق المحامي بطرس حرب أعلن عبر مقابلة تلفزيونية أنه سيتقدم من النائب العام التمييزي بإخبار عن الفساد المستشري لدى معظم الطبقة السياسية في السنوات الأخيرة، على أن تشمل التحقيقات كل السياسيين ومن بينهم حرب نفسه وتجميد كل حساباتهم لمدة سنة حتى انتهاء التحقيق.
تبدو هذه الخطوة جيدة، اذا سلمنا بحس مسؤولية مشرّع ومسؤول سابق، ولكن الاخبار وحده لا يُجدي نفعاً ما لم يلق تحركاً جدّياً من القضاء، خلافاً للمتعارف عليه بوضع الملفات في الأدراج... والنقطة الأهم: تجميد أي حسابات؟ في الوقت الذي بات معروفاً أن الفاسدين، غير تهريب أموالهم إلى الخارج، يعتمدون على الواجهات المالية لشراء العقارات والشركات وتبعاتها. اذا المسألة أكثر تعقيداً من مجرّد إخبار إلى القضاء..
من المؤكد أن ما قبل 17 تشرين الأول 2019 ليس كما بعده، لا أمل بالساسة ولكن الرهان على نفَس الشارع وقوة ضغطه حتى تحقيق مطالبه كاملة، وأهمها اسقاط منظومة فاسدة استنزفت البلد على مدى ثلاثين سنة، محاسبة رموزها، واسترجاع ولو بعضاً من الأموال المنهوبة!

Tuesday, October 29, 2019

الوعي يثور... إسألوا الساحات

"إن استثارة الانفعال العاطفي بدلاً من التفكير هي طريقة تقليدية تستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أن استخدام المفردات العاطفية يسمح بمرور اللا – وعي حتى يتم زرع أفكار به، ورغبات ومخاوف، ونزعات وسلوكيات".... هكذا شرح نعوم تشومسكي تأثير الساسة على الشعب، وكم عانينا نحن اللبنانيون من استثارة السياسيين لعواطف مناصريهم لسنوات وسنوات، ولكن بلحظة واحد انتفض الشارع مرّة واحدة، نزل إلى الكثير من الساحات ليقول للساسة كفى.. ما عدنا نصدقكم... خربتم البلد.. إرحلوا... إلا شارعين نزلا ليدافعا عن الزعيم!
نحن نعرف أن هناك من يحبّون رئيس الجمهورية حتى العظم، كما هناك من يحبّون أمين عام حزب الله ورئيس مجلس النواب... نعم إنهم يحبونهم ويناصرونهم حتى النخاع... وهذه حريتهم الشخصية في بلد يدّعي الديمقراطية، ولكن مهلاً لماذا نزلوا إلى الشارع؟ في صور والنبطية ورياض الصلح بالاعتداء على المتظاهرين من دون توفير رجال قوى الأمن الداخلي، والتطاول على المراسلين على مقلب مناصرة رئيس الجمهورية... نعم نحن نتفهم الحب ولنقل النزول إلى الشارع لإظهار هذا الحب، وإن كان هزيلاً جداً اذا ما قارناه بالملايين التي نزلت إلى كل الساحات مطالبة كل الطقم الحاكم بالرحيل... ولكن لا نستطيع أن نتفهّم استخدام العنف مع متظاهريين سلميين!
اذا قاربنا الموضوع من زاوية علم النفس نجد أن ردود الفعل العنيفة ما هي إلا تعبير عن غضب ممزوج بالخوف... غضب من مظاهر شعروا أنها تهدّد وجودهم، وهنا أتحدث عن الساسة قبل المناصرين، فثار الشارع المقابل غضباً فاقدا القدرة على ضبط النفس ضمن الحدود الأخلاقية والانسانية..
ومن الطبيعي أن يخاف السياسيون على وجودهم في مشهدية لم يسبق للبنان أن عاشها... عشرة أيام، كل يوم تزداد الساحات ويزداد روادها والكل يرفع مطالب موحدة: رحيل كل الطقم الحاكم، استعادة الأموال المنهوبة... وشعاراً عريضاً "كلن يعني كلن". في انتفاضة الشارع لم ينزل اللبنانيون تلبية لمطالب السياسيين، بل نزلوا تلبية لصرخة داخلية باتت ملحة... "كفى استغباء لنا... من حقنا أن نعيش حياة كريمة"!
نزلوا إلى الشارع في 17 تشرين الأول ومستمرون في اعتصامهم مع حرصهم على إقفال الطرقات الحيوية، مرة بالاطارات المشتعلة، ومرة بالسواتر الترابية وأخيراً بالدروع البشرية... ما يحصل على أرض لبنان وساحاته يمكن أن نسميه عصياناً مدنياً مبطناً إلى أن تتجاوب السلطة مع مطالب الشارع.
ومع ثبوت تعنّت السلطة ورفضها الرضوخ للمطالب، بدأت تظهر معالم نية بالحزم ولكن النقطة الايجابية في كل ذلك أن الجيش، المؤسسة العسكرية التي تحاول السلطة استخدامها لقمع المتظاهرين وسحبهم بالقوة من الساحات، تتعاطف بغالبية كبيرة مع هذا الشارع، ورأينا ذلك في فيديوهات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر العسكر متضامنين مع الناس، ففي النهاية العسكر من الناس وفيهم!
الناس في الشارع يقولون "لبنان خط أحمر"، والمناصرون للعهد ونصرالله يقولون "زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يطالبون بحكومة من الاختصاصيين من خارج السلطة الحاكمة لتنقذ البلد من الانهيار الذي يتهدّده، استعادة الأموال المنهوبة في صفقات السياسيين على حساب الدولة، وبانتخابات نيابية مبكّرة... والمناصرون للعهد ونصرالله يقولون لهم "لا زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يهتفون "سلمية سلمية"، يغنون الأغاني الوطنية، يعدّون الطعام والشراب لبعضهم البعض، ببساطة يعيشون تعايشاً حقيقياً في الساحات العامة... والمناصرون للعهد ونصرالله يرددون "زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يحاولون رسم صفحة جديدة لوطن أنهكه الفساد... والمناصرون للعهد ونصرالله يرددون "زعيمي خط أحمر"...
طبعاً الساحات والشوارع ليست منزّهة عن الأخطاء ولكن الخطوط العريضة التي يرفعها ما يقارب المليوني لبناني ويرفعونها يومياً في الساحات اللبنانية وفي الكثير من دول المهجر، مغايرة جداً لما يرفعه عدد أقل بكثير لا يحمل إلا شعاراً واحداً، يستخدم العنف لأجله، يصرخ بوجه المراسلين بسببه... "زعيمي خط أحمر".
أحلى ما في ثورة 17 تشرين الأول، أنها أسقطت عن الكثير من الزعماء غطاء الشارع... أحلى ما فيها أنه عكست للعالم ثقافة ووعي شعب صبر طويلاً على انتهاش لحمه ولكنه بلحظة لم يكن هو يتوقعها انتفض، انتفض على كل شيء... وفوجىء كم هو موحّد، كم هو قادر على إحداث فرق... كم هو واع على واقعه حين ظن السياسيون طويلاً أنه أعمى ويمكن استغباؤه... الآن يخرج الساسة واحداً تلو الآخر محاولاً امتصاص غضب الشارع، وكل ما خرج أحد كل ما غضب الشارع أكثر وانتفض أكثر... أحلى ما في 
الثورة أنها أرتنا نحن اللبنانيين، قبل غيرنا، ماذا يمكننا أن نفعّل!

Monday, October 21, 2019

لبنان ينتفض... لن تُسكتوا الشارع

لم يكن اللبنانيون يتوقعون أن يشهدوا أصواتهم تعلو في الساحات العامة بهذه القوة والزخم...
أن يرددوا بصوت عال هتافات ضد مسؤولين دأبوا منذ سنوات على استنزافهم...
أن تتحوّل الأخبار والشاشات من نقل كذب الساسة إلى نقل نبض الشارع الذي يثور...
أن يُسمعوا العالم صوتهم ويخبروه عن أوجاعهم...
أن ينكسر خوفهم من سياسيين وصلت بهم الوقاحة إلى سحب ناشطين إلى التحقيق لمجرد التعبير عن رأيهم عبر وسائل التواصل الإجتماعي
أن تتحوّل الأضواء من حاكمي البلد إلى المحكومين فيه.
ولكن ما لم يكن في الأحلام حتى صار حقيقة... انكسر حاجز الخوف... الخوف من كل شيء.. نزل الناس إلى الشارع غير عابئين بالـ "بعبع" الآخر الذي خلقه السياسيون ليبتزونهم عاطفياً ويبقونهم تحت رحمتهم... ومن كان لديه شك ولو بسيط، اكتشف زيف تلك الادعاءات... فهذا الآخر من غير دين أو طائفة يجمعه به ألف شيء... يجمعهم الجوع والحرمان والاستنزاف.. وبات الشارع يجمعهم الآن أيضاً.
يقال "الشعب الذي يجوع يأكل حكامه"... والشعب اللبناني جاع ولم يعد يحتمل!
17 تشرين الأول 2019 لن يكون يوماً عادياً في رزنامة التاريخ اللبناني، هذا اليوم سيسجّل في التاريخ: اليوم الذي كسّر فيه اللبنانيون صمتهم وانتفضوا في الشارع... اليوم الذي قلبوا فيه الطاولة على سياسيين سلبوهم أبسط حقوقهم بالعيش الكريم... ظلوا يستفزوهم إلى أن أخرجوهم إلى الشارع، والوقائع تشير إلى أنهم لن يخرجوا منه قبل أن يحققوا مطالبهم.
مع وقاحة الضرائب الجديدة التي أعلنت عنها الحكومة على التخابر عبر تطبيقات مجانية أصلاً، ولكن ليس الواتساب الذي جعل الناس ينزلون إلى الشارع، كان هو الشرارة التي أشعلت فتيل الشارع.
انتفض الشارع على استغبائه واقتراحات سد عجز الدولة دائماً من جيبه، من دون المس برواتب ومخصصات ورفاهية المسؤولين؛ فباحتساب بسيط للأرقام، الـ 216 مليون دولار التي روّج وزير الاتصالات بأن الخزينة ستجنيها من الضريبة على التخابر عبر الانترنت، المجاني أصلاً، لا يوازي كلفة رفاهية المسؤولين في سفراتهم على حساب الدولة مثلاً!
هذا عدا عن ضرائب جديدة كانوا يسوقون لها، عشية حرائق التهمت الأخضر واليابس في بلد يتغنى بخضاره، وروائح اهمال، تقاذف مسؤوليات وصفقات طفت إلى السطح على وقع ألسنة النار!
الضريبة على الواتساب كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد سلة تجاوزات بحق هذا الشعب الذي ينوء تحت كاهل معيشته، استخفاف فيه وبحقوقه، وعنجهية غير مسبوقة من سلطة حاكمة.
مشهد الشارع شهدناه في العام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وأثمر وقتها خروج الاحتلال السوري من لبنان. الا أنه كان ينقصه الشارع الشيعي، الذي كان على المقلب الآخر... ووقتها كان الخطاب سياسياً ونجوم المنابر ساسة، ولكن هذه المرة، الناس هم نجوم المنابر، وانقلبوا على أولئك الساسة.. وقتها أعطى الناس السياسيين الثقة ليتحدثوا بإسمهم ورددوا الخطابات خلفهم... أما الخميس الفائت، فرفعوا عنهم هذه الثقة، ما عادوا يريدونهم أو يريدون خطاباتهم.
لم يسبق للبنان أن شهّد هذه الأعداد من كل الطوائف، منتشرة في ساحات مختلفة عبر أراضيه تطالب الجميع بالرحيل.
لم يسبق أن خرج أهل صور والنبطية وطرابلس إلى الشارع منددين بزعمائهم، فالعادة جرت أن يُطوعوا لتلميع صورة هؤلاء.
لم يسبق أن خرج أناس من النبطية وشتموا رئيس مجلس النواب نبيه بري، أو من الطريق الجديدة شاتمين رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري... أو من صور شاتمين حسن نصرالله.. على الهواء مباشرة.
انكسر حاجز الخوف، وكأن كيل الناس فاض وضاق الوطن بهم ذرعاً من مسؤولين أحكموا القبضة على بلد ينزف... بلد جعله جشعي المال والسلطة ينزف بيئياً، اقتصادياً، اجتماعياً... خرج الناس يصرخون بأعلى أصواتهم، كفى.
كبار وصغار، نساء ورجال... خرجوا إلى الشارع يرفعون الصوت، يخبرون عن وجعهم... كل هذه السنوات كانوا يسمعون للسياسيين ولكن هذه المرة فرضوا صوتهم ليُسمعوا... "جوعتونا"... "شبعنا ذل"... "فلوا"... "رجعوا الأموال المنهوبة"... "مطرحكم الحبس"...وغيرها من العبارات التي صرخوا ويصرخون بها على الشاشات... والتشديد هذه المرة "كلن يعني كلن"!
لا تزال الساحات تغّص بالمتظاهرين ولا يزال هواء الاعلام مفتوحاً للناس ليُخرجوا صمت سنوات من الشعور بالغبن. لن يكون الرهان على الساسة الذين خرجوا بمهلة 72 ساعة بورقة اصلاحية، قد تكون جيّدة ولكنها لا تتضمن كل البنود التي يعترض عليها الشارع، ولا ثقة لهذا الشارع بتنفيذها...
الرهان أن يخلق هذا الشارع بنبضه الحقيقي بديلاً فعّالاً يُخرج لبناننا من أزماته، والناس من الساحات مهللين فرحاً بالانتصار!

Tuesday, October 1, 2019

الثورة تحتاج إلى ثوّار

"موجوع... والله العظيم موجوع"... بهذه العبارة وبصوت متنهّد وعينين دامعتين استغاث لبناني مسّن واجتاح وجعه وسائل التواصل الاجتماعي محركاً نقمة وتعاطفاً في الوقت عينه... 

العم لم يعبّر عن آلامه الجسدية وعدم قدرته على العلاج فحسب، بل قال للسياسيين، بالدليل الدامغ، كم تكذبون حين تقولون "لبنان بخير... قد تكونوا أنتم وكراسيكم بخير، أما الشعب فليس كذلك.. الشعب موجوع"!

يوحي السياسيون الناشطون استعراضاً أن البلد في أفضل أحواله، نعم من قد يتوقع أن يكون وفد كبير إلى نيويورك آتياً من بلد ينازع اقتصادياً؟ من يتوقع أن يكون وزير يخطب بالمثاليات ويعطي المهاجرين صورة لمّاعة للمستقبل، آت من بلد يغرق! 

طبعاً نحن بلد نحّب أن نعطي صورة مبهرة عن أنفسنا، حتى لو كنّا نتخبط بوحول الديون... لن تأخذ الدول فقرنا على محمل الجد، فالمنطق يقول إن العجز المادي يتطلب تقشفاً، لا بذخاً... والمنطق يقول إنه يفترض بعائلة صغيرة أن تقتص من كمالياتها في حال العجز، فما بالك ببلد!

هذا الانتقاد الذي يعبّر عنه الشباب اللبناني، لا يروق لمناصري الحكم الحالي. ومن يتابع تويتر مثلاً، سيجد أن الرد دائماً يكون من باب نظرية المؤامرة على العهد وتصويب أصابع الفساد على الأطراف الأخرى... والعكس بالعكس.. وكم كثرت ملفات الفساد التي فُتحت مؤخراً وضج بها الإعلام، ولكن لم يستتبع فتح أي ملف محاسبة أي مسؤول. ماذا حصل بالصفقات التي فضحوها؟ لماذا سكتت الأصوات والوثائق؟

أولاً لأن الغاية من فتح هذه الملفات هو تشتيت انتباه الشعب وتخدير صرخته لا المحاسبة، وثانياً لأن السياسية في لبنان تقوم على مبدأ التسويات، بالعامية اللبنانية "مرقلي لمرقلك". وهكذا يستعرضون سياسياً ويصمتون عند المصالح! 

حسناً، لنتفق أن الذين تعاقبوا على حكم هذا البلد منذ سنوات أمعنوا تلوثاً بالفساد، كل منهم كان له ملفه الفاسد: الكهرباء، النفايات، الكسارات، التعدي على الأملاك البحرية... والقائمة لا تنتهي.. وهذه تراكمت لتنفجر كلها مع ملفات فساد جديدة في حكم قد يكون الأسوأ في لبنان. حكم، لا يكفي فشله في إدارة بلد غارق في الديون، يبني حضوره على العنجهية والغطرسة والوعود الكاذبة... أما الشعب فمنقسم بين مستفيد وموجوع!

نعم ليس كل الشعب موجوع، فهناك شعب مرفّه على غرار زعيمه، فالتعيينات الإدارية والوظائف العامة والتوازنات الطائفية و و و و تعطي السياسيين ورقة رابحة لضمان ولاء المناصرين، وجيش المدافعين عندما تستدعي الحاجة.

على المقلب الآخر، هناك الولاء الايديولوجي وهو ولاء عقائدي معزّز بالمكاسب المادية والمعنوية بإمدادات خارجية، وهذا بدوره له انعكاسات منافع على الحلفاء. 

وعلى هذا الحال لم يبق من هذا الشعب الا الفئة الواعية للواقع والمتحرّرة من الولائين السياسي أو الايديولوجي؛ وهذه عدا عن اصطدامها على أرض الواقع مع الفئات الأخرى المدافعة عن قوى الأمر الواقع، فهي وحدها غير قادرة على تحقيق ثورة وقلب طاولة الفساد على رؤوس المفسدين..

لا نحتاج إلى الكثير من التحليل لنرى أن البلد الذي كان يلقّب بسويسرا الشرق يوماً، بات على حافة الكثير من الانهيارات: بيئياً، صحياً، أمنياً، معيشياً، اقتصادياً... وعلى ما يبدو فالسلطة تُمعن فشلاً كل يوم أكثر؛ فأي نجاة لبلد يحتاج إلى خطة طوارىء ولجنة مختصين، ويُقاد بالصفقات والفاسدين؟

بالأمس نزل الناس إلى الشارع، والشارع حضن الثورة... ولكن في لبنان لا أمل في أن يحرّك الشارع أي ثورة حقيقية، فالثورة تحتاج إلى شعب يقف على ضفة واحدة لا أن يتشتت على ضفاف السياسة والمصالح والإيديولوجيا... تحتاج أن يتضامن هذا الشعب ويصّر على حقوقه لا أن يكون متنازلاً عنها سلفاً كرمى لمن نصبوا أنفسهم عرّابين مدعين حمايته... الثورة تحتاج إلى روح متمردة على الظلم ووعي للواقع وخطة عملية لتغييره... الثورة تحتاج إلى شعب لا أتباع... الثورة تحتاج إلى ثوار!

Monday, July 22, 2019

عين على اللاجئين وعين على بلدي


عشر سنوات مرّت على زيارتي الأولى إلى مخيّمي صبرا وشاتيلا لللاجئين الفلسطينيين، كنت وقتها ضمن مجموعة صحفيين لبنانيين وعرب شاركنا في ورشة تدريب على صحافة السلام. 
عندما أبلغنا المنظمون أننا سنزور المخيمات شعرت ببعض التوجس بسبب النمطية السائدة حول المخيمات، من أن دخولها ليس بالأمر السهل إلى ارتباط بعضها بالسلاح والجريمة وبأحداث يغلب عليها الطابع السوداوي. ولكن شعوري بالقضية الفلسطينية وشغفي الصحفي خلقا في داخلي حماسة قوية لأتعرف إلى فلسطين في لبنان، وتحديداً إلى مخيمي "صبرا وشاتيلا" المشهورين.
أذكر وقتها الحماسة في أعين زملائنا القادمين من فلسطين لرؤية المخيمين، وأذكر جيداً ذلك الوجع والخيبة في عيني زميلتنا رانية عندما جالت في المخيم... قالت لي وقتها: "لم أكن أتخيّل أنهم يعيشون هكذا"... وأنا مثلها صُدمت من الحياة في الداخل. مقابر بين البيوت، وأزقة ضيقة جداً يسبقك الصرف الصحي الدرب فيها، والأولاد يلعبون في تلك الأزقة بين تلك القاذورات! هذه عينة عن مأساوية الوضع. 
القصة لا تقف هنا اذ أخذ سامر، منسّق الزيارة، يخبرنا عن شغفه بمهنة الطب وكيف أنه ممنوع من مزاولتها في لبنان. ومهنة الطب مثل 36 مهنة أخرى محظور على الفلسطيني ممارستها في لبنان. وكان عدد المهن أكبر، إلا أنه في العام 2005 أصبح اللاجىء الفلسطيني قادراً على العمل بما يقارب سبعين مهنة كانت ممنوعة عنه بسبب حصرها باللبنانيين.
أذكر وقتها كم ضايقني الأمر، صرت أتخيّل نفسي مكان سامر،أن أكون مهجّرة قسراً من وطني ولا أستطيع العودة إليه أبداً، ألوذ إلى بلد آخر وأُحرم فيه حتى من أن أحلم بممارسة مهنة أحبها...إنسانياً، المسألة مؤلمة!
ولكن على المقلب الآخر اذا نظرنا إلى ردات فعل فلسطيني المخيمات الناقمة على قرار وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان لتنظيم العمالة الفلسطينية في لبنان مؤخراً، من حرق الدواليب إلى طباعة علم فلسطين على العملة اللبنانية، فهي الأخرى مجحفة بحق هذا البلد الصغير الذي ينوء تحت كاهل انهياره. 
وهنا، وللموضوعية، سأورد بعضاً مما كتبته زميلة فلسطينية من أبناء مخيم برج البراجنة على صفحتها على فايسبوك، تعليقاً على القرار وتبعاته: 
• "القانون قديم. الجديد هو أخذ القرار بالتشدّد بتطبيقه
• لوزارة العمل كل الحق بالقيام بما يلزم لحماية اليد العاملة اللبنانية وتنظيم اليد العاملة الأجنبية.
• لبنان بلد صغير وموارده محدودة وعليه عبء كبير فوق طاقته، ولكن أيضا هناك فساد وهو السبب الرئيس في تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية...
• استصدار إجازة عمل للفلسطيني، يحمي بالدرجة الأولى حق العامل، وهي مطلوبة من رب العمل أو المشغل الذي سيتحمل تكاليفها
• على الشارع الفلسطيني ضبط النفس والتحرك بمنطق وعقلانية. شهدنا تحركات فيها من الإبداع والفعالية والجدوى والتأثير أكثر بكثير من أي أعمال تخريب أو حرق دواليب (يعني بنفعش غير نحرق دواليب؟! هوي إحنا ناقصنا تلوث وقرف وأوبئة وأمراض.. إرحمونا وإرحموا أولادنا..."
هذه مقاربة من فتاة فلسطينية تعيش في مخيم لللجوء في لبنان، نعم كان لديها مآخذها وهذا حقها الطبيعي، ولكنها في نفس الوقت تعاطت مع القرار بمنطق.
لنعود إلى ردات الفعل في الشارع من الجانبين اللبناني والفلسطيني.
تفيد الدراسات الأخيرة في علم الأعصاب أننا نحن البشر نأخذ قراراتنا بعاطفتنا ونطلب من عقلنا أن يصدّق عليها. وهذا ما يحصل غالباً في كل شيء، يرى الناس الأمور من زاوية عاطفية علماً أنهم اذا أحكموا العقل، يروون الواقع بشكل مختلف، يرونه بوضوح أكثر ومنطق أكثر.
اذا راقبنا ما يحصل على الأرض، نجد أن بعض الأطراف اللبنانيين يتعاطون مع اللجوء الفلسطيني بعنصرية، وعلى الجانب الفلسطيني نجد أيضاً من يتعاطون مع اللبنانيين بحساسية مفرطة وغضب وأحياناً ميل إلى الانتقام. كلاهما على حق من منظاره الشخصي البحت، ولكن كلاهما سيجد نفسه على خطأ اذا قارب الأمور من منظار احتياجيات الآخر، اذا تعاطى مع الواقع بإنسانية وليس بأنانية.
أذكر عندما خرجنا من المخيّم، وفي حديث مع أحد زملائنا القادمين من فلسطين، وكان رجلاً أربعينياً، قال لي وقتها والدمعة في عينيه يعلّمون أبناءهم التراث الفلسطيني ولا يزالون يحتفظون بمفاتيح منازلهم لأن لديهم أملاً في العودة يوماً ما... نعم لو كان الفلسطينيون قادرون على العودة فهذا مُناهم!
على المقلب الآخر، ضاق اللبنانيون درعاً بكل المشاكل التي يتخبطون بها سياسياً واقتصادياً وحتى معنوياً، وعليه ما عادوا قادرين على تحمّل مزيداً من الضغط النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
لبنان بلد على حافة الإنهيار الاقتصادي، نسبة البطالة فيه مرتفعة جداً، وآلاف الشباب المتخرجين يهاجرون سنوياً لأن سوق العمل ضاق بأهله. وعليه المنطق يقول إنه من المفترض أن تنظّم العمالة الأجنبية، علّ هذا البلد الصغير يلملم نفسه وسط كل الأزمات التي تحدق به!
هذا لا يعني أن لا نرأف بمن فقدوا حضن الوطن، ولكن نحن يضيق بنا حضن وطننا، فليرأفوا هم بنا أيضاً!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

Tuesday, July 2, 2019

دماء مجانية على درب الزعامات

كم كنّا أغبياء حين ظننا أن الإنهيار الاقتصادي هو أقصى ما أوصلنا إليه فساد الطبقة الحاكمة، فعلى ما يبدو الرعونة والعنجهية السياسية تذهب بِنَا أبعد من ذلك بكثير... تأخذنا إلى هاوية لا ندري إن كانت تلك الطبقة نفسها تُدركها أو لا... يتجلى ذلك بالأنا المنتفخة التي تلبس رداء محاربة الطقم القديم الفاسد بكوة نار أخطر من الفساد، كوة من جراح لم تلتئم، نبش قبور الحرب الأهلية لا ليعالجوا جراح هذه الحرب بل ليستغلوها إرضاء لجوعهم المرضي للمال والسلطة.
لنقرأ الأحداث بتروٍ ومنطق... استفزازات سياسية ورد عليها في الشارع خلّف قتلى وجرحى شباب.. ما حدث جاء كرد فعل عنيف،وهو ليس وليد لحظته بل هو نتاج تراكمات من الاستفزاز والتحريض الطائفي... 
ما حدث يثير القلق وما كان يفترض أن يحدث البتة ولكن بات واضحاً أن الاحتقان وصل إلى الذروة.
اذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء نجد أن الخطاب الطائفي بدأ معزوفته الطرف الطائفي الفائر برعونة على أبواب الانتخابات النيابية السنة الفائتة؛ وقتها استفاد منه خصمه أيضاً فالشعب اللبناني كما العربي عاطفي، والبشر بطبيعتهم يبحثون دوماً عن ملاذ أمان، فجاء الخطاب الطائفي ليضرب على الوترين معاً، ويخدم العدو والصديق. ويبدو أن نتاج الخطاب الطائفي راق للأطراف السياسية اذ حقق الغاية وخدم مصالحها بشكل كبير، فأصبح ورقتها الرابحة في كل معركة مع الخصم. 
المنطق يقول عندما يتحدث أي طرف بمنطلق طائفي متعصِّب، يفترض به أن يتوقع أن يقابل بالرفض من الطرف الآخر، أن يتوقع التعصّب تجاهه. يفترض أن يكون واعياً لذلك ولعواقبه ولا يلعب دور الضحية الطوباوي. ما الغاية من كل هذه الصولات والجولات على مناطق لبنانية لا تستسغ بغالبيتها خطاب الوزير العتيد؟ بما تخدم لبنان والشعب اللبناني؟ إلا اذا كان القصد فعلاً الاستفزاز والرقص على جثث الضحايا، كما حصل عملياً!
واضح جداً من يمارس الاستفزارت، ويمكن لأي مراقب أن يلاحظأن أطراف هذا التحالف السياسي يجمعهم حقد دفين نابع من غبن وجودي ضمن الطائفة الواحدة، ومن غباء سياسي غير قادر على حساب عواقب الأمور، مثل الطفل الذي يرى لعبة بعيدة ويهرع باتجاهها غير واع على ماذا يدوس في طريقه. علماً أن الأطفال لا يؤذون بقصد الأذى، بعكس ما هو حاصل مع رعناء السياسة في لبنان.
واذا توقفنا قليلاً عند الأحداث التي حصلت وتحصل مؤخراً، نجد أن الأطراف التي اتحدت تحتمي بعباءة حزب الله وتتصرفبمباركة من هذا الحزب؛ الحزب الذي غالباً ما ينأى بنفسه عن الأمور الداخلية، ولكن للمفارقة بتنا نراه حاضراً بقوة بعد كل حدث بطابع فتنوي، لا للصلح بل لصب الزيت على النار.
هذا على الأرض أما على المنابر السياسية فغاب القتلى وحضر استغلال الحدث إلى أقصى الحدود، لدرجة الترويج لاغتيال وزير في الحكومة، والاعلام لعب دوراً في تسويق ذلك، علماً أن لا إثباتات حسية على ذلك حتى الساعة.
لم ينس الناس بعد صورة الوزير السابق وئام وهاب رافعاً يديه مع حلفائه في حزب الله في اشارة للنصر، والضحكة تعلو محياهمفي عزاء مرافق وهاب الذي وقع قتيلاً في المعمعة إياها مع الجهاز الأمني. يومها صوّر الحادثة على أنها ثأر شخصي ضده،وأظهرت التحقيقات لاحقاً أن المغدور قُتل برصاص رفاقه، أي رجال وهّاب نفسه. ويبدو أن الاسطوانة تتكرر مرة جديدة. 
اذا الهدف من بدايته ليس بريئاً، أما أدوات تحقيق الهدف فهي الأخرى غير أخلاقية لأنها تقوم على الاستفزاز والتحريض واللعب بجراح الناس، والنتائج تبدو واضحة، دماء أبرياء تضرّج كل يوم على مذبح الطائفية.
وهكذا وبدل أن تكون الأطراف السياسية تبذل جهدها لتخرج البلد من الانهيار الاقتصادي الذي خلفته بتسيبها، بات شغلها الشاغل إلهاء الناس عبر اثارة النعرات والفتن الداخلية.
اذا هي لم تجتمع لطي ملف مؤلم كما تدّعي، هي في الحقيقة تعيش عقد نقص واضحة تجاه الأطراف التي تتحداها، تفعل ما تفعله لإثبات وجودها والمنافسة على زعامات الطوائف. وحزب الله يبارك، لأنه عملياً المستفيد الأول من تخبط الطوائف ببعضها البعض. بهذه الطريقة يبني سياجاً لمشروعه دون الحاجة إلى توجيه سلاحه مباشرة إلى الشارع كما فعل في ٧ أيار المشؤوم، والذي يتفاخر به كيوم مجيد.
السلم الأهلي لا يمر عبر الاستفزازات، خصوصاً أن من كانوا معنيين بتلك الحرب المشؤومة طووا صفحتها. الكل أخطأ والكل تأذى من تلك الحرب، ففي الحروب ليس هناك رابحون، الكل خاسر؛ ومن يقلّب بدفاتر الماضي اليوم لم يكن جزءا ًمن تلك الحرب ليصوّر نفسه على أنه أُم الصبي. ومهلاً هؤلاء الحلفاء الذين يحاول الاستفزاز من خلالهم وبعدها حمّل شماعة الجراح، ألا ينتمون إلى الطائفة التي يخاف منها؟ كيف لا يخاف منهم؟
كلها لعبة سياسية قذرة، كل طرف فيها يبحث عن مكاسبه الشخصية فقط، ولو عبر طريق معبّد بدم الأبرياء.
هذا لا يعني أن الأطراف المقابلة بريئة، هي الأخرى تتحمّل المسؤولية، فشد الحبال يتطلب طرفين، وفي الحالة اللبنانية كل طرف يشّد الحبل باتجاهه ليكسب الجولة. المعادلة ليست معادلة تحصيل حقوق كما يدّعون، هي في الحقيقة إثبات حضور سياسي لا أكثر ولا أقل.
ما هي القضية التي يموت لأجلها الشباب؟ لا قضية! هي مسألة "تكبير راس" بين أطراف سياسية يحاول كل منها فرض نفسه على أنه الأقوى ليحصد أكثر في الغنيمة والهيمنة السياسية. هي ببساطة حرب "أنا" سياسية على أرض شعبيه هشّة، هشة بالتبعية العمياء والانجرار العاطفي خلف الزعيم، ولو على جثامين شباب ذنبهم الأول أنهم ولدوا في بلد مركّب على الطائفية، بلد لا يُراعى فيه أبسط الحقوق الانسانية في أن يعيش المرء بكرامة دون أن يُذل لهذا الزعيم أو ذاك ليعيش... بلد يستنزفهم تارة بالتيئيس وتارة أخرى بالدم!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

Thursday, May 2, 2019

الثورة تولد من رحم الأحزان!

"نسعى لوظيفة دولة، فموظفو الدولة هم أكثر الناس استقراراً وأماناً مالياً في هذا البلد"... هذا كان حلم الكثير من اللبنانيين الذين يبحثون عن الأمان المعيشي في بلد يفتقد لأدنى مقومات الأمان... هذا كان طموح شباب يتخرجون من الجامعات لأنه حسب المفهوم الاجتماعي "موظف الدولة" هو أكثر الأشخاص المحصّنين بالاستقرار المادي. 
إلا أن السياسيين في بلدي قرروا حتى تحطيم هذا الحلم المحدود الأفق، تحت ذريعة التقشف لسد عجز مديونية الدولة؛ دولة أفلسوها بتسيّبهم وبدل أن يعالجوا أسباب العجز، والذي يبدأ بصفقاتهم بالمليارات ولا ينتهي بالتهرب الضريبي والرواتب الخيالية لبعض أتباعهم... يبحثون عن كبش فداء، ومن غير هذا الشعب الفقير نفدي به الوطن! 
نغضب، نلعن، نثور وأقصى ما يمكننا فعله كتابة تغريدة تعبّر عن غضبنا، وإذا أثقل أحدنا العيار على الساسة ومسّهم كلامه قد يدّعون عليه بجرم القدح والذم ويستدعونه للتحقيق... نعم نحن يحقّق معنا على تغريدة وهم لا يحقق معهم على بلد سرقوه بجوعهم المرضي للمال والسلطة!
بعضنا نزل وينزل إلى الشارع، ولكن في الحقيقة زواريب السياسة تفرقنا أكثر من ما يجمعنا شارع وجعنا على يومياتنا التي حولها السياسيون إلى مقيتة، مقيتة في بلد أصبح جلّ هموم المواطن فيه أن يحمي لقمة عيشه ليبقى على قيد الحياة. 
ألا يحق لنا نحن الشعب، الذي ينام ويستفيق على فضائح سرقات السياسيين، أن ندّعي عليهم لأنهم نهبوا مقدرات هذا البلد على مدى سنوات وسنوات؟ ألا يحق لنا أن نقاضيهم لأنهم بدل أن يتحملوا مسؤولياتهم، عندما جفّ المنبع صاروا يولولون "سينهار الاقتصاد"، وضعوا حصناً منيعاً على مداخيلهم ومخصصاتهم وترفهم على حساب الخزينة، ورفعوا شعار مكافحة الفساد على الشعب... لا يخجلون حتى! 
نعم من الشعب، هناك من يسرق الكهرباء، كما وصفت الوزيرة العتيدة، وهناك من يتهرّب من الضرائب ويخالف ويرشي ليحصل على خدماته بسرعة، وأحياناً بطرق غير قانونية؛ ولكن الفضائح كشفت أن بعض المسؤولين أبرموا صفقات بالمليارات على ظهر الكهرباء وغيرها، وأيضاً هناك مسؤولين يخالفون ليس فقط القوانين بل الأعراف الأخلاقية برمتها وأوصلونا إلى الحال الاقتصادي المتردي الذي نتخبط فيه. ومع أن الفقر قد يكون الدافع في الكثير من مخالفات الشعب، إلا أن هذا الشعب يُحاسب أكثر من المسؤول المتخم بجشع المال والسلطة!
خرج وزير المال يطالعنا بفضائح أبناء السلطة، عرض لائحة أرقام تظهر الهدر والسرقات في القطاع العام، خبايا لم نكن نعرفها، ومن المؤكد هناك خبايا أكثر. حدّد بالأرقام والمواقع هدر بالميارات: مسؤولون يقبضون رواتب عدة، موظفون يتقاضون رواتب خيالية وتحفيزات تصل إلى الخمسين والستين مليون ليرة (أي ما يعادل 40 ألف دولار أميركي) شهرياً، قطاعات متوقفة منذ زمن ولكن عداد الرواتب فيها لا يزال شغالاً لموظفين وهم في منازلهم، والسخرية أنه بالأمس القريب أُعلن عن توجّه لرفع هذه الرواتب... وغيرها وغيرها من المحسوبيات والزبائنيات السياسية التي تخدم السياسيين ومصالحهم الانتخابية!
طرح وزير المال جملة قرارات لمعالجة مزاريب الهدر تلك، والمفارقة أن أي من تلك القرارات لم يقترب من مخصصات أبناء السلطة، مع العلم أنه في رد على سؤال أحد الحاضرين عن المسؤول عمّا وصلنا إليه قال: لا أحد فوق الغربال، كلنا مسؤولون، كل شخص كان في الحكم مسؤول. 
هذا اعتراف صريح وواضح، ولكن إلى ماذا أفضى؟ لا شيء؟ لم نسمع أي تحرّك لأي جهة رقابية لتحاسب! ما سمعناه قرارات تطال الناس الذين استضعفوهم وما زالوا، علماً أن القاصي والداني بات يعرف أن رائحة الفساد تفوح بالدرجة الأولى من الطبقة السياسية الحاكمة؛ طبقة لا تستحي وبكل وقاحة ترفع شعار مكافحة الفساد. 
لا يجرؤ أي مواطن أن يكون فاسداً إن كان يعرف أنه سيحاسب حقاً. منذ مدة، ليست ببعيدة، صرّح فنان لبناني كان يعيش في كندا أن العقاب الذي يوجبه القانون الكندي هو الذي كان يجبره على الالتزام بذلك القانون، وذلك ينسحب على كل المواطنين الأجانب. نعم ألم الحساب يجعل الانسان يفكّر جيداً قبل أن يخالف، والفرق بيننا وبين الدول المتقدمة ليس في وجود القوانين بل في تطبيقها. قد تكون بعض قوانيننا بالية عافها الزمن، ولكن هناك بعض القوانين التي قد يفي تطبيقها ببعض الضبط.
السلطة تتمادى ولم يعد أمام الناس سوى الشارع الذي اختاروه ليكون الساحة التي يصرخوا فيها وجعهم... الساحة ليرفضوا تصفية حسابات السرقة على حسابهم... قرروا النزول إلى الشارع، والشوارع قالت الكثير حول العالم، فإن "الثورة تولد من رحم الأحزان"!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

Wednesday, March 27, 2019

السياسيون الطالحون... مدبرو الوطن؟!

كثيرة هي الفضائح التي تطال السياسيين اللبنانيين في الآونة الأخيرة، خصوصاً من يدّعون العفّة منهم. تقارير بالجملة، وثائق ومعطيات تكشف النقاب عن هدر للمال العام، وكل منهم يقذف الطابة في المرمى المناوىء. يتراشقون إعلامياً "أنت فاسد"... "أنت فاسد"؛ يطبّل المناصرون هنا وهناك ويشتمون على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم يُسدل الستار على المسرحية!
من يحاسب؟ لا أحد يحاسب! حتى الشعب لا يحاسب، فالسياسيون يتقنون فن إلهائه مرة بلقمة عيشه التي باتت منوطة بتبعيته لهذا الزعيم أو ذاك، ومرة أخرى بشّد العصب الطائفي، وما أسهل نبش القبور في بلد كثرت فيه مقابر الأحياء. 
بمتابعة هذه المسرحية الهزلية في فتح ملفات الفساد والتسيّب المالي في بلد على حافة الانهيار الاقتصادي، تعود إلى ذاكرتي أحداث عايشتها عندما كنت أعمل على تحقيق استقصائي عن الرشاوى في إحدى الدوائر الرسمية اللبنانية. يومها، وفي شهادة حيّة قال لي أحد المهندسين حرفياً "نحن شركاء في الفساد ولو لم نكن شركاء لكنا الآن في بيوتنا نبحث عن عمل"! وعندما قصدت الوزير المعني، عرّاب المسؤول الفاسد، أكد لي أن التسجيل الذي بحوزتي اثبات على الرشاوى، وأذكر وقتها كيف شتم المسؤول لأنه تسبب بإحراجه أمام الإعلام!
للمفارقة، ومع أني وقتها وثّقت الفساد بالصوت والصورة، الا أنه بعد عرض التحقيق تحرّك مجموعة من المهندسين، الذين على ما يبدو شركاء في هذا الفساد ومستفيدين منه، واستنكروا ما ورد من معطيات ليعطوا شهادة نزاهة، شاركهم فيه الوزير، للمسؤول المعني. ومع أن المدعي العام المالي طلب نسخة من التحقيق التلفزيوني للتحقيق بالموضوع، ولا أعرف أصلاً إن حصل ذلك، ولكن المسؤول بقي في منصبه ولم يتغيّر أي شيء، بل على العكس، فعلى حد تعبير أحد المهندسين "بطّلت فارقة معهم... صاروا يرتشوا على عينك يا تاجر". 
للأسف، في لبنان كل شيء يسير بهذه العقلية، من يكون مدعوماً يكون عنده نوع من الحصانة على المحاسبة، بغض النظر عن مسؤولياته أو تبعات مخالفاته. حتى المواطنين، بات كثر منهم يحدثوك بمنطق يفتقد لأدنى شروط المسؤولية الوطنية تحت شعار: "شو بدنا نكون ملكيين أكثر من الملك... اذا المسؤولين وما فارقة معهم أنا بدا تفرق معي"!
اذا نظرنا إلى المشهد العام في هذا البلد، نرى أن السياسيين أشبه بمدبرة منزل مستهترة، لا يهمها أمر المنزل أو نهوضه، كل همّها ما تحصل عليه شخصياً، علانية كبدل خدمة أو سراً في غفلة من صاحب البيت؛ والمواطنون هم أشبه بالأولاد القُصَّر في هذا المنزل، ليس لديهم الوعي الكافي لإدراك خطورة التسيّب، وعندما يُولّى عليهم شخص غير مسؤول، سيجرّون معه المنزل إلى الخراب... كما هو حاصل في هذا الوطن!
الفارق بين المعادلتين أن صاحب أي منزل لديه الخيار والسلطة في التخلي عن خدمات مدبّرة منزل غير مسؤولة، وربما محاسبتها أو بأقل تقدير الاستعانة بأخرى أكثر كفاءة؛ أما نحن كشعب فما في يدنا حيلة، فمدبرو هذا الوطنينصّبون أنفسهم علينا تحت سطوة العاطفة الطائفية، يحملون الشعارات الدينية ليطوعوا الشعب لانتخابهم والدفاع عنهم لاحقاً؛ وتبحث عن أخلاقيات الدين في سلوكياتهم، فتجد الكفر جهاراً!
يقول لي كوان يو: "تنظيف الفساد مثل تنظيف الدرج يبدأ من الأعلى نزولاً للأسفل"، ونحن في هذا البلد وفي الكثير من البلدان العربية، اذا لم نبدأ بتنظيف المؤسسات من الفساد على هذا النحو، ستطمس الأوساخ معالم الدولة وما بقي من هيبتها، كما طمرت النفايات الكثير من شوارعنا في ذلك المشهد المخزي على الشاشات العالمية!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

Wednesday, February 6, 2019

الامارات تعرّي تعصبنا

عندما تنظر إلى الإمارات والصورة التي قدمتها في زيارة البابا فرنسيس إليها في أول زيارة لسيّد الفاتيكان إلى الخليج العربي، تشهّد الرقّي في احترام الآخر، الآخر الذي يحمل معتقداً مختلفاً وهوية مختلفة... تشهد الرقي في دولة إسلامية لم تقف عند حدود المعتقد . الديني بل تخطته إلى ما هو أعمق... إلى الانسانية. 
مشهد البابا مع شيخ الأزهر أبعد من الكليشيهات النمطية، مثل صورة الصليب والهلال والكنيسة والجامع؛ هو مشهد من لحم ودم نر فيه أكبر مرجعيتين دينيتين للمسيحيين والمسلمين معاً يقولان للعالم الذي يقود صراعاته باسم الدين، إن الدين هو طريق نختاره بيننا وبين الله، ولكن كبشر يمكن أن يكون بيننا قاسماً مشتركاً، بل قواسم مشتركة. 
كلبنانية، على قدر ما أفرح بهذا الوجه الحضاري للامارات، على قدر ما أحزن أكثر على بلدي، البلد الذي أصبح فيه الدين شمّاعة السياسيين لخدمة مصالحهم الطماعة... أحزن عندما أرى بلداًإسلامياً يحتفي بالبابا ويكرّمه كل هذا التكريم، وبلدي الذي تجمع قراه مختلف الطوائف في بقعة واحدة صغيرة، ويتداخل نسيجه الاجتماعي بكل أطيافه، غارق حتى الاختناق في أتون الطائفية... لا، في بلدي المشكلة ليست في الدين، المشكلة فينا نحن، نحن شعب عاطفي يسهل اقتياده، شعب يبحث عن جناح زعيم يزعم أنه الحامي... وقلة قليلة فيه تتطلع إلى وطن، وهكذا لن يبنى هذا الوطن.
أذكر عندما دخلت الجامعة، المكان التي يبدأ فيه الشباب بممارسة أولى نشاطهم السياسي، قال لي والدي جملة لا تزال عالقة في ذهني: "السياسيون في لبنان بيختلفوا وبيخلفونا وبيتفقوا وما بيخبرونا"... وهذا ما برهنته لي الأيام. نعم كل الأحزاب تبنى على أسس ومبادىء وأخلاقيات، يتماهى معها الشباب كل من موقعه، وهذا جيّد، ولكن للأسف العبرة ليست في الشعارات بل في الممارسات على أرض الواقع. أنهيت دراستي الجامعية وأخذتني تجارب الحياة وخبراتها إلى حقل بناء السلام وحلّ النزاعات، وهناك أدركت حجم الفجوة التي خلقتها السياسة بين الشباب اللبناني، الشباب الذي يقف على متاريس دفاعية للحزب الذي ينتمي اليه، وغالباً لا يتقبّل الآخرالمختلف عنه فقط في السياسة، فالهموم الحياتية تجمعهما، وبقوة. 
ومع الأحداث والتطورات كل مرّة يتلوّن اصطفاف الشباب بحسب تلوّن الاتفاقات أو الخلافات بين الأطراف السياسيين،وبالتالي فالمتحزبون، لأي حزب انتموا، لو مهما كانوا مثقفين ولكنهم في الواقع تابعون لشخص يقودهم، يتحدثون بمنطقه وأفكاره، تذوب شخصياتهم في شخصيه وفي رؤيته وتطلعاته... 
وهكذا يمكننا أن نرى التناقض، لو مهما كان هذا الحزب متقدماً بالفكر، ولكن مواقفه تكون مبنية على معطيات يقيّمها شخص الرئيس، والمناصرون المتحزبون يتبنون. هذا لا يعني أن كل السياسيين على خطأ بالمطلق، فالبعض يطرح معادلات منطقيةوتجد الصواب في ما يقوله لو مهما كان في الواقع متبايناً عنك. الا أن ما بات مزعجاً حقاً، هذه التبعية العمياء للزعماء. وهنا لا أتحدث عن عامة الناس المحكومين بلقمة عيشهم أو بعواطفهم، أتحدث عن النخبة والتي عندما تسمع أفرادها يتحدثون تعجب بثقافتهم ولكن يصدمك تعصبهم عندما يتعلق الأمر بالسياسة.ويصدمك أكثر أنهم مستعدون لنبذك كإنسان، لو مهما كنت تحاكي عقلهم فكرياً، فقط لأنك ترى السياسة من منظار مختلف؛ لا يتقبلون منك اسقاط الهالة القدسية التي يباركون فيها من يتبعون سياسياً. وفي هذه الحال، منطق المحاججة جاهز، أنظري إلى ذاك كم هو فاسد... نعم هو فاسد ولكن اذا كان كذلك فهذا لا يعني أن الضد يظهر حسنه الضد، نحن كشعب وكواعين يفترض أن نتطلع إلى حكم رشيد لبلد ينوء تحت كل أنواع التخبطات.. بلد تتزايد فيه حالات الاصابة بالسرطان بشكل مخيف، ويتفشى تعاطي المخدرات بين شبابه بشكل يدق ناقوس الخطر... وكل ذلك نتيجة للسياسات الفاسدة، السياسات التي تقاتل لمصالحها الشخصية على حساب صحة الناس وحياتهم، السياسيات التي تعبر بكل وقاحة على أرواح المواطنين لتسجّل انتصاراتها ومكاسبها.
هللنا للحكومة الجديدة بعد تسعة أشهر من التجاذبات والخلافات على الحصص، ربحونا جميلاً! حسناً، في الحكومة الجديدة شباب وتمثيل نسائي غير مسبوق وحماس للعمل يعطي جرعة تفاؤل، ولكن بمجرد أن نعود إلى كيف وصل هؤلاء الوزراء، ووفق أي معطيات ومحاصصات، ومن يتبعون ولمن يقولون "أمرك"، نكون أمام الأمر الواقع المتكرر، إن تغيّرت وجوههم ولكنهم في الحقيقةإفراز لنفس الطبقة السياسية التي حكمت البلد بالفساد والهدر والصفقات، وأوصلته إلى الحال المزري الذي هو عليه الآن... فكيف سنثق!
وهنا لا نسأل السياسيين، لأنهم قطعوا مرحلة الحياء وأخلاقيات الاعتراف بمسؤولياتهم بأشواط، نسأل النخبة كيف بعد كل ما فعله هؤلاء السياسيون في لبنان مازلتم تصدقوهم، تتبعوهم وتقاتلون الآخر لأجلهم؟ كيف يمكن أن نحلم بالخروج من هذه المآزق اذا كنا نفتقد لأبسط مقومات الثورة على الواقع... نفتقد للوعي وسلطة المحاسبة!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه