Monday, July 22, 2019

عين على اللاجئين وعين على بلدي


عشر سنوات مرّت على زيارتي الأولى إلى مخيّمي صبرا وشاتيلا لللاجئين الفلسطينيين، كنت وقتها ضمن مجموعة صحفيين لبنانيين وعرب شاركنا في ورشة تدريب على صحافة السلام. 
عندما أبلغنا المنظمون أننا سنزور المخيمات شعرت ببعض التوجس بسبب النمطية السائدة حول المخيمات، من أن دخولها ليس بالأمر السهل إلى ارتباط بعضها بالسلاح والجريمة وبأحداث يغلب عليها الطابع السوداوي. ولكن شعوري بالقضية الفلسطينية وشغفي الصحفي خلقا في داخلي حماسة قوية لأتعرف إلى فلسطين في لبنان، وتحديداً إلى مخيمي "صبرا وشاتيلا" المشهورين.
أذكر وقتها الحماسة في أعين زملائنا القادمين من فلسطين لرؤية المخيمين، وأذكر جيداً ذلك الوجع والخيبة في عيني زميلتنا رانية عندما جالت في المخيم... قالت لي وقتها: "لم أكن أتخيّل أنهم يعيشون هكذا"... وأنا مثلها صُدمت من الحياة في الداخل. مقابر بين البيوت، وأزقة ضيقة جداً يسبقك الصرف الصحي الدرب فيها، والأولاد يلعبون في تلك الأزقة بين تلك القاذورات! هذه عينة عن مأساوية الوضع. 
القصة لا تقف هنا اذ أخذ سامر، منسّق الزيارة، يخبرنا عن شغفه بمهنة الطب وكيف أنه ممنوع من مزاولتها في لبنان. ومهنة الطب مثل 36 مهنة أخرى محظور على الفلسطيني ممارستها في لبنان. وكان عدد المهن أكبر، إلا أنه في العام 2005 أصبح اللاجىء الفلسطيني قادراً على العمل بما يقارب سبعين مهنة كانت ممنوعة عنه بسبب حصرها باللبنانيين.
أذكر وقتها كم ضايقني الأمر، صرت أتخيّل نفسي مكان سامر،أن أكون مهجّرة قسراً من وطني ولا أستطيع العودة إليه أبداً، ألوذ إلى بلد آخر وأُحرم فيه حتى من أن أحلم بممارسة مهنة أحبها...إنسانياً، المسألة مؤلمة!
ولكن على المقلب الآخر اذا نظرنا إلى ردات فعل فلسطيني المخيمات الناقمة على قرار وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان لتنظيم العمالة الفلسطينية في لبنان مؤخراً، من حرق الدواليب إلى طباعة علم فلسطين على العملة اللبنانية، فهي الأخرى مجحفة بحق هذا البلد الصغير الذي ينوء تحت كاهل انهياره. 
وهنا، وللموضوعية، سأورد بعضاً مما كتبته زميلة فلسطينية من أبناء مخيم برج البراجنة على صفحتها على فايسبوك، تعليقاً على القرار وتبعاته: 
• "القانون قديم. الجديد هو أخذ القرار بالتشدّد بتطبيقه
• لوزارة العمل كل الحق بالقيام بما يلزم لحماية اليد العاملة اللبنانية وتنظيم اليد العاملة الأجنبية.
• لبنان بلد صغير وموارده محدودة وعليه عبء كبير فوق طاقته، ولكن أيضا هناك فساد وهو السبب الرئيس في تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية...
• استصدار إجازة عمل للفلسطيني، يحمي بالدرجة الأولى حق العامل، وهي مطلوبة من رب العمل أو المشغل الذي سيتحمل تكاليفها
• على الشارع الفلسطيني ضبط النفس والتحرك بمنطق وعقلانية. شهدنا تحركات فيها من الإبداع والفعالية والجدوى والتأثير أكثر بكثير من أي أعمال تخريب أو حرق دواليب (يعني بنفعش غير نحرق دواليب؟! هوي إحنا ناقصنا تلوث وقرف وأوبئة وأمراض.. إرحمونا وإرحموا أولادنا..."
هذه مقاربة من فتاة فلسطينية تعيش في مخيم لللجوء في لبنان، نعم كان لديها مآخذها وهذا حقها الطبيعي، ولكنها في نفس الوقت تعاطت مع القرار بمنطق.
لنعود إلى ردات الفعل في الشارع من الجانبين اللبناني والفلسطيني.
تفيد الدراسات الأخيرة في علم الأعصاب أننا نحن البشر نأخذ قراراتنا بعاطفتنا ونطلب من عقلنا أن يصدّق عليها. وهذا ما يحصل غالباً في كل شيء، يرى الناس الأمور من زاوية عاطفية علماً أنهم اذا أحكموا العقل، يروون الواقع بشكل مختلف، يرونه بوضوح أكثر ومنطق أكثر.
اذا راقبنا ما يحصل على الأرض، نجد أن بعض الأطراف اللبنانيين يتعاطون مع اللجوء الفلسطيني بعنصرية، وعلى الجانب الفلسطيني نجد أيضاً من يتعاطون مع اللبنانيين بحساسية مفرطة وغضب وأحياناً ميل إلى الانتقام. كلاهما على حق من منظاره الشخصي البحت، ولكن كلاهما سيجد نفسه على خطأ اذا قارب الأمور من منظار احتياجيات الآخر، اذا تعاطى مع الواقع بإنسانية وليس بأنانية.
أذكر عندما خرجنا من المخيّم، وفي حديث مع أحد زملائنا القادمين من فلسطين، وكان رجلاً أربعينياً، قال لي وقتها والدمعة في عينيه يعلّمون أبناءهم التراث الفلسطيني ولا يزالون يحتفظون بمفاتيح منازلهم لأن لديهم أملاً في العودة يوماً ما... نعم لو كان الفلسطينيون قادرون على العودة فهذا مُناهم!
على المقلب الآخر، ضاق اللبنانيون درعاً بكل المشاكل التي يتخبطون بها سياسياً واقتصادياً وحتى معنوياً، وعليه ما عادوا قادرين على تحمّل مزيداً من الضغط النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
لبنان بلد على حافة الإنهيار الاقتصادي، نسبة البطالة فيه مرتفعة جداً، وآلاف الشباب المتخرجين يهاجرون سنوياً لأن سوق العمل ضاق بأهله. وعليه المنطق يقول إنه من المفترض أن تنظّم العمالة الأجنبية، علّ هذا البلد الصغير يلملم نفسه وسط كل الأزمات التي تحدق به!
هذا لا يعني أن لا نرأف بمن فقدوا حضن الوطن، ولكن نحن يضيق بنا حضن وطننا، فليرأفوا هم بنا أيضاً!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه

Tuesday, July 2, 2019

دماء مجانية على درب الزعامات

كم كنّا أغبياء حين ظننا أن الإنهيار الاقتصادي هو أقصى ما أوصلنا إليه فساد الطبقة الحاكمة، فعلى ما يبدو الرعونة والعنجهية السياسية تذهب بِنَا أبعد من ذلك بكثير... تأخذنا إلى هاوية لا ندري إن كانت تلك الطبقة نفسها تُدركها أو لا... يتجلى ذلك بالأنا المنتفخة التي تلبس رداء محاربة الطقم القديم الفاسد بكوة نار أخطر من الفساد، كوة من جراح لم تلتئم، نبش قبور الحرب الأهلية لا ليعالجوا جراح هذه الحرب بل ليستغلوها إرضاء لجوعهم المرضي للمال والسلطة.
لنقرأ الأحداث بتروٍ ومنطق... استفزازات سياسية ورد عليها في الشارع خلّف قتلى وجرحى شباب.. ما حدث جاء كرد فعل عنيف،وهو ليس وليد لحظته بل هو نتاج تراكمات من الاستفزاز والتحريض الطائفي... 
ما حدث يثير القلق وما كان يفترض أن يحدث البتة ولكن بات واضحاً أن الاحتقان وصل إلى الذروة.
اذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء نجد أن الخطاب الطائفي بدأ معزوفته الطرف الطائفي الفائر برعونة على أبواب الانتخابات النيابية السنة الفائتة؛ وقتها استفاد منه خصمه أيضاً فالشعب اللبناني كما العربي عاطفي، والبشر بطبيعتهم يبحثون دوماً عن ملاذ أمان، فجاء الخطاب الطائفي ليضرب على الوترين معاً، ويخدم العدو والصديق. ويبدو أن نتاج الخطاب الطائفي راق للأطراف السياسية اذ حقق الغاية وخدم مصالحها بشكل كبير، فأصبح ورقتها الرابحة في كل معركة مع الخصم. 
المنطق يقول عندما يتحدث أي طرف بمنطلق طائفي متعصِّب، يفترض به أن يتوقع أن يقابل بالرفض من الطرف الآخر، أن يتوقع التعصّب تجاهه. يفترض أن يكون واعياً لذلك ولعواقبه ولا يلعب دور الضحية الطوباوي. ما الغاية من كل هذه الصولات والجولات على مناطق لبنانية لا تستسغ بغالبيتها خطاب الوزير العتيد؟ بما تخدم لبنان والشعب اللبناني؟ إلا اذا كان القصد فعلاً الاستفزاز والرقص على جثث الضحايا، كما حصل عملياً!
واضح جداً من يمارس الاستفزارت، ويمكن لأي مراقب أن يلاحظأن أطراف هذا التحالف السياسي يجمعهم حقد دفين نابع من غبن وجودي ضمن الطائفة الواحدة، ومن غباء سياسي غير قادر على حساب عواقب الأمور، مثل الطفل الذي يرى لعبة بعيدة ويهرع باتجاهها غير واع على ماذا يدوس في طريقه. علماً أن الأطفال لا يؤذون بقصد الأذى، بعكس ما هو حاصل مع رعناء السياسة في لبنان.
واذا توقفنا قليلاً عند الأحداث التي حصلت وتحصل مؤخراً، نجد أن الأطراف التي اتحدت تحتمي بعباءة حزب الله وتتصرفبمباركة من هذا الحزب؛ الحزب الذي غالباً ما ينأى بنفسه عن الأمور الداخلية، ولكن للمفارقة بتنا نراه حاضراً بقوة بعد كل حدث بطابع فتنوي، لا للصلح بل لصب الزيت على النار.
هذا على الأرض أما على المنابر السياسية فغاب القتلى وحضر استغلال الحدث إلى أقصى الحدود، لدرجة الترويج لاغتيال وزير في الحكومة، والاعلام لعب دوراً في تسويق ذلك، علماً أن لا إثباتات حسية على ذلك حتى الساعة.
لم ينس الناس بعد صورة الوزير السابق وئام وهاب رافعاً يديه مع حلفائه في حزب الله في اشارة للنصر، والضحكة تعلو محياهمفي عزاء مرافق وهاب الذي وقع قتيلاً في المعمعة إياها مع الجهاز الأمني. يومها صوّر الحادثة على أنها ثأر شخصي ضده،وأظهرت التحقيقات لاحقاً أن المغدور قُتل برصاص رفاقه، أي رجال وهّاب نفسه. ويبدو أن الاسطوانة تتكرر مرة جديدة. 
اذا الهدف من بدايته ليس بريئاً، أما أدوات تحقيق الهدف فهي الأخرى غير أخلاقية لأنها تقوم على الاستفزاز والتحريض واللعب بجراح الناس، والنتائج تبدو واضحة، دماء أبرياء تضرّج كل يوم على مذبح الطائفية.
وهكذا وبدل أن تكون الأطراف السياسية تبذل جهدها لتخرج البلد من الانهيار الاقتصادي الذي خلفته بتسيبها، بات شغلها الشاغل إلهاء الناس عبر اثارة النعرات والفتن الداخلية.
اذا هي لم تجتمع لطي ملف مؤلم كما تدّعي، هي في الحقيقة تعيش عقد نقص واضحة تجاه الأطراف التي تتحداها، تفعل ما تفعله لإثبات وجودها والمنافسة على زعامات الطوائف. وحزب الله يبارك، لأنه عملياً المستفيد الأول من تخبط الطوائف ببعضها البعض. بهذه الطريقة يبني سياجاً لمشروعه دون الحاجة إلى توجيه سلاحه مباشرة إلى الشارع كما فعل في ٧ أيار المشؤوم، والذي يتفاخر به كيوم مجيد.
السلم الأهلي لا يمر عبر الاستفزازات، خصوصاً أن من كانوا معنيين بتلك الحرب المشؤومة طووا صفحتها. الكل أخطأ والكل تأذى من تلك الحرب، ففي الحروب ليس هناك رابحون، الكل خاسر؛ ومن يقلّب بدفاتر الماضي اليوم لم يكن جزءا ًمن تلك الحرب ليصوّر نفسه على أنه أُم الصبي. ومهلاً هؤلاء الحلفاء الذين يحاول الاستفزاز من خلالهم وبعدها حمّل شماعة الجراح، ألا ينتمون إلى الطائفة التي يخاف منها؟ كيف لا يخاف منهم؟
كلها لعبة سياسية قذرة، كل طرف فيها يبحث عن مكاسبه الشخصية فقط، ولو عبر طريق معبّد بدم الأبرياء.
هذا لا يعني أن الأطراف المقابلة بريئة، هي الأخرى تتحمّل المسؤولية، فشد الحبال يتطلب طرفين، وفي الحالة اللبنانية كل طرف يشّد الحبل باتجاهه ليكسب الجولة. المعادلة ليست معادلة تحصيل حقوق كما يدّعون، هي في الحقيقة إثبات حضور سياسي لا أكثر ولا أقل.
ما هي القضية التي يموت لأجلها الشباب؟ لا قضية! هي مسألة "تكبير راس" بين أطراف سياسية يحاول كل منها فرض نفسه على أنه الأقوى ليحصد أكثر في الغنيمة والهيمنة السياسية. هي ببساطة حرب "أنا" سياسية على أرض شعبيه هشّة، هشة بالتبعية العمياء والانجرار العاطفي خلف الزعيم، ولو على جثامين شباب ذنبهم الأول أنهم ولدوا في بلد مركّب على الطائفية، بلد لا يُراعى فيه أبسط الحقوق الانسانية في أن يعيش المرء بكرامة دون أن يُذل لهذا الزعيم أو ذاك ليعيش... بلد يستنزفهم تارة بالتيئيس وتارة أخرى بالدم!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه